لم تكن الصهيونية حركة ملاصقة دائماً للآمال اليهودية الضائعة على مر تاريخ الدين اليهودي، بل كانت حركة ذات جذور علمانية تقبلها اليهود المحافظون بشيء من التردد في بداية الأمر.
سبق الصهيونية حركات ذات جوهر ديني مثل الحاسيدية أو حركات التأويل الديني في السبي البابلي التي أخرجت تأويلات تضمن ليهود الشتات المزيد من المركزية الدينية كرد فعل مباشر على الأوضاع الاجتماعية الصعبة حسب السردية اليهودية؛ كان أبرزها الحركات المسيانية صاحبة الوجود الأهم في التاريخ اليهودي، لقدرتها المرنة على التأويل والتنبؤ وتكيفها مع كل الظروف، خاصة ما يقابل اليهود من إحساس مباشر بالتقزم في ظل الإمبراطوريات الشاسعة الأوروبية والإسلامية، كون المسيانية تحمل وعداً إلهياً يضمن لليهود الرفعة والمباركة المباشرة من الله!
هذا الإحساس المتنامي بالضآلة جعل المجتمعات اليهودية تبذل جهوداً كبيرة لخلق المسيح المخلص خلقاً في لحظات عدة، وفقاً لتفسيرات متداخلة للنصوص التوراتية والتلمودية المكتوبة، وفقاً لإحساس الاضطهاد نفسه، إلا أنها أسفرت عن مزيد من التناقض والشتات الفكري اليهودي!
أخذ مصطلح المسيح في المعاجم العبرية أكثر من مرادف، حيث ظل لفترة طويلة، خاصة في ظل الممالك اليهودية، يُعبِّر عن فعل المسح أو المباركة للملك القائم على المجتمع اليهودي.
بعدها تجاوز تلك الحصرية قليلاً في زمن الملك الفارسي كورش الكبير؛ لاعتقاد اليهود أنه ملك مؤمن مرسل من الله إليهم، لما أبداه من تعاطف معهم بعدما أخرجهم من السبي البابلي وأعادهم إلى القدس لإعادة بناء الهيكل على نفقته الخاصة، وذلك يظهر بوضوح في إجلال العهد القديم لسيرته عبر القول: «هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَماً، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ».
كانت هي المرة الأولى التي ذُكر فيها مسح ملك أممي (غير يهودي)، حتى إنها لم تجرِ حسب عادات الطقس اليهودي التقليدي كما نصت الشريعة الموسوية في سفر الخروج، حين كلم الله موسى طالباً منه: «وَأَنْتَ تَأْخُذُ لَكَ أَفْخَرَ الأَطْيَابِ: مُراً قَاطِراً خَمْسَ مائَةِ شَاقِل، وَقِرْفَةً عَطِرَةً نِصْفَ ذلِكَ: مائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَقَصَبَ الذَّرِيرَةِ مائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَسَلِيخَةً خَمْسَمائَةٍ بِشَاقِلِ الْقُدْسِ، وَمِنْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ هِيناً. وَتَصْنَعُهُ دُهْناً مُقَدَّساً لِلْمَسْحَةِ. عِطْرَ عِطَارَةٍ صَنْعَةَ الْعَطَّارِ. دُهْناً مُقَدَّساً لِلْمَسْحَةِ يَكُونُ».
هنا طلب الله من موسى أن يأخذ من الدهن ليكرس به هارون وبنيه وخيمة الاجتماع وتابوت الشهادة وكل شيء، لتكون مكرسة لله ويكون موسى قدس الأقداس تأكيداً لملكه ونبوته، فلم تكن مشرعة لملك أممي خارج الشريعة اليهودية من الأساس!
جرى تدمير الهيكل الثاني، الذي كان أعاد بناءه كورش الكبير، في سنة 70 للميلاد على يد الجيش الروماني بقيادة تيطس، ليأخذ الفكر المسياني منذ تلك اللحظة تطوراً أكثر مغالاة بِناءً على ما دُوِّن أثناء الأسر البابلي في التلمود ليكون أول تسجيل للإيمان بمجيء المسيح المستقبلي.
ويعتبر التلمود مُؤَلَّفاً جماعياً عُمل عليه أثناء السبي البابلي، يُلخص فيه الأفكار التشريعية والأسطورية الخاصة بحكماء إسرائيل منذ بداية القرن الثالث في فترة ما بعد اختتام المشناة - أي التوراة الشفوية لموسى - بعدما قدَّم مجمع الحاخامات الدراسات والشروحات على المشناة كونها تحمل نبوءات موسى الخاصة وشرائعه الأرضية، إلا أن التلمود أخذ يندمج مع الهوى اليهودي آنذاك، متأثراً بما مر به اليهود من اضطهاد أثناء السبي.
أُكِّد الفكر المسياني لاحقاً بواسطة موسى بن ميمون في كتابه الأهم مشناة توراة بوضعه كأحد المتطلبات الأساسية للعقيدة اليهودية، مشكِّلاً بذلك الفكر السائد عن المسيا، والذي يشكل معتقداً جدلياً عند يهود العالم الآن.
كتب موسى بن ميمون: «الملك الممسوح مقدر له إقامة واستعادة مملكة داود وإعادة أمجادها الغابرة، في سيادتها المستقلة وفي سلطتها القائمة بذاتها، وسوف يُبنى الهيكل أو المعبد في أورشليم (القدس)، وسوف يعيد جمع شمل اليهود المشتتين في العالم معاً، وسوف يعاد تطبيق كل الشرائع في أيامه كما كانت من قبل».
ويضيف: «سوف تقدم الذبائح والأضاحي وتحفظ أيام السبت وأعياد اليوبيل طبقاً لجميع سلوكياته وأخلاقياته المدونة في التوراة، وكل مَن لا يؤمن به أو لا ينتظر مجيئه لن يكون فقط يتحدى ويقاوم ما قاله الأنبياء، بل سيكون رافضاً للتوراة ولموسى معلماً».
تتابعت الحركات المسيانية اليهودية منذ اندلاع الحروب الرومانية اليهودية في القرن الأول الميلادي بشكل أكثر وضوحاً تبعاً لتفسيرات التلمود البابلي، وذلك بدءاً من إشادة ومباركة المواطن اليهودي شمعون بار كوخبا من قِبل الحاخام عكيفا بن يوسف، الذي كان يعتبر أحد الحكماء الحاخاميين الذين سُجِّلت آراؤهم في المشناة حتى أشير إليه برئيس جميع الحكماء.
اعتُبر شمعون بار كوخبا المسيح المخلص لذلك الزمن وفقاً لتفسيرات عكيفا النصية للتوراة، حيث تنطق كلمة نجم في العبرية كوخب ، والموجودة في النص التوراتي مقابلة لكلمة نجم في سفر الأعداد 24:17 نجم خرج من يعقوب، لذا اعتقد مجمع الحاخاميين وعلى رأسهم ابن يوسف أن كوخبا هو المسيا بالتفسير التوراتي.
بحسب هذا الفهم بُورك كوخبا مع وجود الظروف الملائمة التي تنبئ بقدوم المسيح، والتي تؤكد قدومه في زمن شاع فيه اضطهاد اليهود في ظل هيمنة الإمبراطورية الرومانية الكبرى.
بعد هذا الترحيب، قاد كوخبا ثورة ضد الإمبراطورية الرومانية في سنة 132-136م، لكنها انتهت بالحرب الرومانية اليهودية الثانية التي تحطمت على إثرها مدينة يهودا، وقُتل كوخبا وانتهت ثورته بهزيمة يهودية كاملة.
لم تفلح مسيحانية كوخبا في تحقيق الوعود التلمودية، بل خلقت بيئة أكثر اضطراباً لهم، مما أسفر عن عواقب وخيمة لليهود؛ فبعد قتل كوخبا استُعبد وقُتل بعض أنصاره المتمردين، وأخذت الحكومة الرومانية إجراءات تعسفية تجاه اليهود تحدُّ من نشاطهم الاقتصادي، وصولاً لإقامة معبد للإله جوبيتر الروماني فوق جبل الهيكل، مما أنهى النبوءة التلمودية من جذورها، وأدى ذلك للشتات اليهودي الأبرز في التاريخ في ظل الإمبراطورية الرومانية آنذاك.
وفقاً لبعض التقديرات التلمودية كان من المتوقع ظهور المسيا المخلص للشعب اليهودي في القرن الخامس الميلادي؛ حسبما ورد على لسان قديس يهودي يسمى حننيا دوسا بقوله: «بعد سنة 400 من خراب الهيكل، إذا قال لك شخص: اشترِ حقلاً بألف دينار بدينار واحد، فلا تشترِه، إنه ليس استثماراً مجدياً، حيث إن الاسترداد سيأتي قريباً، وستعود جميع الحقول إلى أصحابها الأصليين».
للمفارقة لم يكتب باسم حننيا دوسا أي تعاليم قانونية - أي الكتب المعترف بها - وبرغم ذلك كان لكلمته وزن كبير عند الله حسب اعتقاد أبناء الديانة اليهودية آنذاك. تبعاً لتلك التقديرات ظهر موسى الكريتي في القرن الخامس في العام 440 بمدينة كريت اليونانية، منتهزاً فرصة جيدة في ظل انشغال الإمبراطورية الرومانية بالاضطرابات الخارجية وانتظار يهود المدينة لنبوءات قدوم المسيا.
استقطب موسى العديد من اليهود إلى حركته بعدما وعدهم بقيادة الشعب على منوال النبي موسى والعبور بهم عبر البحر إلى إسرائيل في حوالي 440-470، وما إن جاء اليوم الموعود للتحرير اتبعه الناس بعد التخلي عن كل شيء يملكونه إلى البحر، وألقوا بأنفسهم في البحر بناءً على أمره حتى لقي الكثيرون منهم حتفهم غرقاً، وأُنقذ المتبقي منهم، وهرب هو دون أن يعلم أحد.
لم تهدأ الفكرة المسيانية في العقل اليهودي، خاصةً مع بزوغ الإمبراطورية الإسلامية التى تناحر ممالك أوروبا على حُكم العالم، مما جعل للفكر المسياني ضرورة تاريخية للمجموعات اليهودية في كل بقاع الأرض، وأوروبا خاصةً، بعد ترسخ سلطة الكنيسة آنذاك على أبناء العقيدة اليهودية كجالية مشتتة في القارة الأوروبية.
في القرن السابع عشر الميلادي في مدينة أزمير التركية الحاخام شبتاي تسفي، الذي درس التلمود والتوراة والكتب الباطنية على يد حاخام المدينة، لكنه استنبط كمسيح مخلص للشعب اليهودي من عقائد باطنية تسمى الكابالا، والتي يرجح المؤرخون أنها كتبت في عصر كتابة التلمود، أي أثناء السبي البابلي، ليشكلا ثنائياً قوياً يستنبط من التوراة شريعتهم الشفوية بجانب مواعيد خلاصهم وخصائص مخلصهم أثناء السبي، ولكن ذاع صيتها في القرون الوسطى لما وجده اليهود بها من تفسيرات تهدئ من روعهم في ظل إحساسهم بالتقزم في عصر الإمبراطوريات الكبرى.
بدأ شبتاي في نشر دعوته بين يهود أزمير التركية في منتصف القرن السابع عشر، واعداً بجمعهم من الشتات، وأخذهم إلى الأراضي المقدسة كما تنبأت الكابالا، وذاع صيت دعوته بين يهود أزمير والمناطق المجاورة لها. ثم ذهب شبتاي تسفي من أزمير إلى إسطنبول سنة 1650، فنصحه حاخامها أبراهام وجيني بالرحيل إلى سالونيك.
عاد شبتاي إلى أزمير سنة 1659، وبعدها أكمل مسيرته الدعوية في مصر وفلسطين، وعند عودته إلى أزمير جرى تتويجه من طرف اليهود المؤمنين به، ثم نشر بياناً قسَّم فيه العالم من بعده على مريديه الثمانية والثلاثين.
لكن تلك الدعوة لم تستمر كثيراً، حيث أصبحت مرفوضة من قِبَل السلطات العثمانية، كما أثارت حفيظة الحاخامات اليهود المحافظين، لذا بدأت إجراءات قمعية بملاحقة هذه الحركة انتهت بسجن صاحبها في العام 1666 خلال زمن السلطان العثماني محمد الرابع بتهمة الفتنة وإفساد الديانة اليهودية وادعاء النبوة.
خلال محاكمته أنكر شبتاي كل الادعاءات الموجهة إليه، حتى إنه أعلن إسلامه أمام السلطان العثماني، وسمي محمد فوزي أفندي! فعفا عنه السلطان وأبقى على حياته وأمر بإطلاق سراحه.
صار شبتاي داعياً للدين الإسلامي حتى أقنع الكثير من أتباعه بالإسلام، وهم من أُطلق عليهم الدونمة، أي العائدون باللغة التركية، لكن ظل كثير من أتباعه على اعتقاد أنه المسيح المخلص، وسموا أنفسهم السبتيين، نسبةً إلى شبتاي، مشكلين مجموعة سرية في ظل الإمبراطورية العثمانية، أظهرت اعتناقها الإسلام، لكنها في باطنها أضمرت عقيدة يهودية كبالية، ويرجح بعض المؤرخين أن هذه الخطوة جرت بتوجيه من شبتاي نفسه، الذي ظل على تواصل معهم في الخفاء.
بعد قرن تقريباً من حالة الإحباط اليهودية من حركة شبتاي نشأت من الفكر المسياني عقيدة جديدة أقل تصادماً مع الحكومات ومتماشية مع الأوضاع اليهودية في أوروبا.
في القرن السابع عشر، امتدت حركة القوازق، وهي فصيل عسكري مكوَّن من فلاحين هاربين من العبودية الإقطاعية في السهوب الروسية، من روسيا إلى داخل الأراضي البولندية بحركة انفصالية ناجحة أنهت العصر الذهبي البولندي والرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي الذي عاشته البلاد.
انتشرت أثناء الانتفاضة جرائم جماعية ارتكبها القوزاق ضد السكان المدنيين، لا سيما رجال الدين الكاثوليك واليهود، مما أدى إلى انعدام الأمن المادي بين اليهود واضطراب أوضاعهم الاجتماعية.
في تلك الأثناء أسس حاخام يهودي يسمى بعل شيم طوف، ويقال إنه جزار شرعي الطائفة الحاسيدية، ولا نعرف الكثير عن حياته، فكل ما وصلنا من سيرته نُقل إلينا شفاهةً، ولم تثبت صحتها تاريخياً بشكل قاطع، حسب المصادر العبرية.
ظلت سيرته مليئة بالأساطير حول قدرته الإعجازية على الشفاء والعرافة، والتي تحتل مكانة مرموقة في التقاليد الحاسيدية لما تمتلكه من نزعة صوفية غالبة على المنحى الحاخامي المحافظ، وتأثرها الشديد بالكتب الباطنية الخاصة بالكابالا.
شاع حسب الأساطير المهمة حول بعل شيم طوف أن له رؤى ظهرت له فيها رسل برسائل مباشرة من الله، وأنه قادر على الصعود إلى السماء، والتي تعتبر من أهم معتقدات الحاسيديم، حتى سُمِّي سيد الاسم (الإلهي)، لما يشكله معتقد الالتصاق مع الإله أو التقرب الشديد إليه في الفعل اليوم أو بشكل مادي كما قيل عن طوف من جوهر للطائفة الحاسيدية.
تخلت هذه الطائفة قليلاً عن انتظار المسيح المخلص بشكله المادي، وسعت إلى أن يكون الفرد اليهودي قائماً بعمل المسيح نفسه في تواصله الروحاني مع السماء، كما تخلت عن الشكل التقليدي لممارسات الشعائر اليهودية وأعطت أهمية أكبر للجانب الروحاني والأخلاقي للإنسان اليهودي للوصول إلى حالة الالتصاق الإلهي من خلال الانعزال الاجتماعي والتجرد المادي على خطى طوف، وكان ذلك مناسباً لتجنب جذب الانتباه إلى الجالية اليهودية أثناء المجازر المتكررة في فترة الاضطراب البولندية.
بذلك قربت الحاسيدية مفهوم الخلاص إلى حياة اليهودي. حيث أصبح الخلاص يعني خروج الفرد من أزماته وقدرته على السعادة مع نفسه. وظهر ذلك جلياً بعد المذابح الجماعية ضد اليهود في كل من أوكرانيا وبولندا، وفي ظل الإحباط من مسيانية شبتاي تسفي.